كما هو معلوم، فإن كل نقاش يدور حول موضوع من موضوعات الغيب إلا و تطرق إلى
أذهاننا ضرورة إلغاء العقل و المعارف الحسية لأن وجود حياة أخرى أبدية بعد الموت
لا يمكننا استنباطه أو الإستدلال عليه عن طريق التجربة الحسية الدقيقة أو عن طريق شهادات
الموتى، فلم يسبق لأحد أن رجع إلينا من ذلك العالم الغامض المليء بالأسرار، مما
زاد من حيرة التائهين و ضلال المتشككين و هذا ما دفع بعضهم إلى القول بأن يوم
الحساب إن هو إلا أساطير الأولين أكتتبتها الأديان فهي تملى عليه بكرة و أصيلا، و
دفع البعض الآخر من المؤمنين إلى القول بضرورة إلغاء العقل و التحلي بالإيمان فقط
لأن العقل محدود و قاصر على أن يدرك ما لا تدركه الحواس و العلوم. و سبب كتابة هذا
المقال كان هو نقاشي مع أحد زملائي المتشككين حيث سألني هل من دليل على يوم
الحساب، فكان جوابي الأول و الأخير: إنها الحرية.
إن أعظم خصائص الإنسان و أجلها و أقواها هي تلك الحرية التي أودعها الله في
قلب كل واحد منا، فبها نحيا، و بها نموت، و بفضلها تزدهر الفلسفات و تتطور العلوم،
لولا الحرية لصار الرأي رأيا واحدا و لصارت العلوم حكرا على طائفة من الذين أوتوا
القوة و الجاه، لولا الحرية لصرنا قطيعا من الحيوانات أو لصرنا آلة من آلات
الإنتاج في يد غيرنا يقلبنا كيف يشاء. فما قامت الحروب و السجون و المحاكم و
المظاهرات و المنظمات الحقوقية و الإنسانية إلا دفاعا عن هذه القيمة الغالية على النفس
البشرية ألا و هي الحرية.
و من هنا سأتطرق إلى الحديث عن الحرية من عدة نواح حتى نصل في الأخير إلى
مدا ارتباطها ارتباطا وثيقا بيوم الدين:
1 – الحرية نقطة فاصلة بين الإنسان و الحيوان:
لطالما راج بين الناس كافة أن أهم ما يميز الإنسان عن سائر الحيوان هو
العقل أو النطق، و هذا صحيح و لكن هناك ما هو أعمق بكثير من ذلك و هو الحرية،
فسلوك الحيوان يعتبر سلوكا فطريا غريزيا لا يخضع لمبدأ أخلاقي و لا يقوم على أساس
الاختيار، فالأسد حينما يجري وراء غزالة ليفترسها فهو هنا لا يعتبر ذلك خيرا أم
شرا لأن المتحكم في سلوكه هذا هو الغريزة التي أودعها الله تعالى فيه و لا وجود
هنا لحرية اختيار أو لمبدأ أخلاقي إنساني، فهل يحق لنا هنا محاسبة الأسد عن فعلته
هذه؟ سيتهم الإنسان حينها بالسخافة و الحماقة إن أقام محكمة لمحاسبة الأسد عن
أفعاله الشرسة في حق الحيوانات الأخرى.
2- لم نلوم الإنسان؟
إلا أن الأمر يختلف اختلافا كاملا
عند الإنسان الذي نصبت المحاكم لأجله و وضعت القوانين لضبط سلوكياته، لأن الأمر
هنا لا يتعلق بكائن بسيط مقيد بغريزة متسلطة قاهرة تتحكم بغرائزه و نزواته و إنما
بكائن ذو تركيبة معقدة و روح عميقة قوامها الأخلاق و أساسها الحرية. فلو ترك
الإنسان أسدا في بته ثم التهم ذلك الأسد طفله الصغير، فهل سيحاسب الأسد على فعلته
هذه؟ إن أول من سيحاسب هو ذلك الإنسان الأبله الذي سمح بوجود الأسد في بيته رفقة
ابنه.
دعنا من مثال الأسد و لننظر إلى أبسط الأمثلة في حياتنا الإجتماعية، فماذا
لو علمت بكذب صديقك عليك؟ ماذا لو علمت بخيانة أقرب الناس لك؟ ماذا لو تعرضت للنصب
و الاحتيال من طرف شخص ما؟ ماذا لو نقض أحد الشركاء العهد معك؟ ماذا لو كان قاتل
طفلك الصغير جارك و ليس الأسد؟ أستقف مكتوف الأيدي تحاسب نفسك أنت أم ستحاسب ذلك
الإنسان كل حسب ذنبه و شره؟ فكراهيتك للكذب و للظلم و للغش و للخيانة كل ذلك مرده
إلى اعترافك الضمني بحرية الإنسان أمام اختياراته و مسؤوليته أمام أفعاله. فلو كان
الإنسان أسير غرائزه مثله مثل سائر الحيوانات لما نصبت المحاكم و لما أخذنا الغضب
من إنسان سيء أو العجب من إنسان خير.
3- الحرية و نظرية التطور:
فالإنسان هو الكائن الوحيد بين جميع الكائنات على سطح الأرض الذي حباه الله
بهذه الخاصية الإنسانية الفريدة و هذا لا يمكن أن يكون أبدا نتاج الصدف العمياء
لأن نظرية التطور لا تهتم سوى بما هو بيولوجي عضوي خارجي ولا دخل لها بما هو داخلي
روحاني و أخلاقي. فالانتخاب الطبيعي ما هو سوى آلية خارجية تعمل على إزاحة
الكائنات المريضة و المشوهة و الإبقاء على الكائنات القوية الكاملة الصالحة للعيش
عن طريق الصراع الدموي الذي نشاهده يوميا بين كائنات الطبيعة و هو صراع غريزي
يستجيب لدوافع بيولوجية. فكيف لهذه الآلية أن تمنحنا الحرية؟ أليس من السذاجة
القول بأن حريتنا هذه هي نتاج هذا الصراع الدموي الغريزي القائم على دوافع
بيولوجية؟
فحتى الإنسان العاقل و المفكر المالك لأكثر المختبرات العلمية تطورا و
تقدما لا يستطيع أن يصنع إنسان آلي حر... فجميع أفعال و أقوال الإنسان الآلي ليست
سوى نتيجة لما تمت برمجته عليه. هذا صنع الإنسان العاقل... فماذا تنتظر من آلية
غير واعية حتى بذاتها؟
4- حرية الإنسان و يوم الحساب:
سواء شئنا أم أبينا فالإنسان لا ينظر أبدا إلى أخيه الإنسان نظرة الإنسان
إلى الحيوان، و إنما يتعامل مع الإنسان في إطار حريته و بالتالي مسؤوليته عن
أفعاله خيرها و شرها ما عدا في حالة الحمق أو فقدان الوعي. أليس تكريم الله
للإنسان بالحرية دليل على محاسبته له يوم الحساب عن أفعاله كما نحاسبه نحن البشر
في الدنيا عنها؟ أليس حلي بنا نحن البشر التفكر في هذه الخاصية العجيبة و النظر
إليها نظرة المتأمل المتفحص في عجائب خلق الله؟ فالحرية الإنسانية تقف سدا منيعا
أمام كل من يزعم أن للإنسان أصل غير الله، فلو كان كذلك لصار حيوانا أو جمادا و
لغاب الخير و الشر عن مفاهيمنا و أحاسيسنا و لصرنا آلات مبرمجة تعمل بهوى مبرمجها
و حينها لا يكون المدح لنا أو اللوم علينا و إنما يكون لمالكنا و مبرمجنا. فلا أحد
يلوم الآلات الحربية على سطوها بالإنسان و إنما يلام الإنسان على استعمالها في
ارتكاب جرائم حربية تعصف بالإنسان و بمقدراته.
أليست حرية الإنسان و مسؤوليته أمام أفعاله عكس الكائنات الأخرى دليلا على
مسؤوليته و محاسبته أمام خالقه يوم القيامة؟ أليست الحرية دليلا قاطعا على الأصل
السماوي للإنسان و على بطلان الإدعاء بأن له أصل حيواني؟
بقلم: الأستاذ عثمان حجيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق