ويليام دومبسكي و جوناثان ويلز
العقبات
التي يجب على التطور اجتيازها:
في
محاولتها لتنسيق التغيرات التطورية المتتالية الضرورية لإيجاد الآلات الجزيئية
المعقدة، فإن الآلية الداروينية تواجهها سلسلة من العقبات التي من بينها ما يلي:
الجاهزية:
هل الأجزاء الضرورية لتطوير نظام كيميائي حيوي معقد بشكل غير قابل للاختزال كالسوط
البكتيري جاهزة؟
التزامن:
هل تلك الأجزاء جاهزة في الوقت الصحيح بحيث يمكن إدماجها عندما يحتاجها النظام
خلال تطوره؟
التموقع:
حتى ولو كانت الأجزاء متوفرة في التوقيت الصحيح لكي تندمج في نظام آخر أثناء
تطوره، فهل يمكنها أن تنفصل عن النظم التي كانت مندمجة فيها (دون أن تلحق بتلك النظم
أي أدى) حتى تنصهر فيما بعد في "مكان بناء" النظام خلال تطوره؟
تفاعلات
التداخل: فلنفترض أن مسألة قدرة الأجزاء على التجمع فيما
بينها في المكان و الزمان المناسبين قد تحققت فعلا، فكيف استطاعت الأجزاء الأخرى
الغير الصالحة و التي يجب إزالتها أن تستبعد من "مكان بناء" النظام خلال
تطوره؟
تطابق
الواجهة: هل الأجزاء التي تم جمعها لضمها في النظام أثناء
تطوره تعتبر متطابقة فيما بينها حتى يكون بإمكانها التأقلم و التموضع بشكل صحيح
مما يمكن أن يتيح لها العمل سويا لإنتاج نظام وظيفي؟
الترتيب
في عملية التجميع: و حتى مع جميع الأجزاء في الموضع الصحيح و الوقت
الصحيحين و حتى مع التطابق التام في الواجهة. هل ستتم عملية التجميع وفق الترتيب
الصحيح بهدف تشكيل نظام وظيفي؟
الإعداد
(Configuration): و حتى لو كانت جميع الأجزاء الصحيحة مبرمجة لكي تتجمع وفق
الترتيب الصحيح. هل سيرتبون أنفسهم بالشكل الصحيح بهدف إنتاج نظام يعمل بشكل صحيح؟
لفهم
المسائل المتعلقة بتجاوز هذه العقبات، تخيل أنك أجير شغل قد تم التعاقد معك على
أساس بناء منزل ما. و من أجل إتمام بنائه بنجاح، فأنت بحاجة إلى تجاوز كل واحدة من
هذه العقبات:
أولا عليك ملاحظة ما إذا كانت جميع الوسائل الضرورية من أجل بناء
المسكن متوفرة (الطوب، اللوحات الخشبية، الأسلاك الكهربائية، الأنابيب،...) و أنها
جاهزة للاستعمال.
ثانيا، عليك التأكد من إمكانية الحصول على جميع هذه الأدوات
الضرورية داخل إطار زمني معقول. مثلا، إذا ما سلمت الأدوات عكس ما يجب أن يكون
عليه الأمر حسب معيار الأولوية على طول مدة البناء، حينها سوف لن يكون بإمكانك
إتمام البناء خلال المدة الزمنية المتفق عليها في العقد، و بالتالي فإن جاهزية
الأدوات يجب أن تكون متزامنة.
ثالثا، يجب
نقل جميع الأدوات إلى مكان البناء. أي بصيغة أخرى، جميع الأجزاء الضرورية لبناء
المسكن يجب أن تتواجد في المكان الصحيح الذي ستتم فيه عملية البناء.
رابعا، يجب
عليك تنظيف مكان البناء من الشوائب و من كل ما يمكنه أن يتداخل مع عملية البناء أو
يعيقها كانبعاثات بقايا الإشعاعات أو أنابيب المناجم المتفجرة لأن وجود مثل هذه
الشوائب سوف لن يسمح ببناء منزل يمكن العيش فيه في هذا المكان. و بصيغة درامية
أقل، إذا ما صادفنا تراكمات من أدوات الخردة في الطريق المؤدي إلى موضع البناء
(أدوات غير ضرورية كالألعاب المكسرة و النفايات المعدنية و الجرائد القديمة) يمكن
أن يصبح من الصعب بمكان اختراق هذه الفوضى و إيجاد الأدوات الضرورية لبناء المنزل
الذي لا يمكنه أن يبني نفسه بنفسه. هذه
العناصر المشوشة و التي من شأنها أن تعيق عملية البناء يمكن وصفها على أنها مولدات
تفاعلات التداخل.
خامسا، التوفر على الأدوات الصحيحة اللازمة للبناء ليس كافيا،
لأنك، باعتبارك بناء، يجب عليك التأكد على أنها يمكنها التلاءم فيما بينها بشكل
مناسب. فإذا ما كنت بحاجة إلى صمولات و لوالب، أنابيب و صنابير، أسلاك كهربائية و
قنواتها بشرط أن تتطابق الصمولات بشكل متناسق مع اللوالب و أن تتوافق الصنابير مع
القنوات و أن تدخل الأسلاك الكهربائية بسهولة داخل القنوات و إلا فإنك لن تستطيع
بناء منزل قابل يصلح للعيش. من المؤكد أن أخذ كل جزء على حدا ربما يصلح كأداة بناء
فعالة لبناء منزل آخر بمواصفات مغايرة، إلا أن كل ما يهمك هنا الآن هو المنزل الذي
أنت بصدد بناءه حاليا. و لا يمكنك بناءه
إلا في حالة ما إذا كانت الأجزاء متطابقة فيما بينها و متناسقة بشكل صحيح. و خلاصة
الأمر، فأنت لست بحاجة فقط إلى التيقن من أن جميع الأجزاء التي تم نقلها إلى مكان
البناء هي من النوع الصحيح و إنما أيضا من أنها تشترك في التوافق في الواجهة، فقط
هكذا يمكنك العمل بها سويا و بشكل فعال.
سادسا، حتى مع توفر جميع الأدوات المناسبة
و في نفس مكان البناء فأنت بحاجة إلى ضمان أن هذه المعدات قد وضعت سويا و في
الترتيب الصحيح. لذلك فإن بناء المسكن يتطلب البدء بوضع الأساسات أولا، و إذا ما
بدأت ببناء الجدران ثم حاولت بعدها وضع الأساسات من أسفلها فإن كل مجهودك سيذهب
سدا. فالأدوات المناسبة تتطلب ترتيبا صحيحا خلال عملية التجميع حتى تكتمل عملية
البناء بنجاح. سابعا و أخيرا، حتى لو قمت بتجميع المعدات وفق الترتيب المناسب
فالمعدات يجب أن تكون مرتبة بشكل جيد. لهذا الغرض، فأنت، باعتبارك من تم التعاقد
معه على بناء المنزل، ستستعين ببنائين و بسباكين و بكهربائيين. فأنت تستعين بهؤلاء
المختصين ليس فقط من أجل تجميع معدات البناء الصحيحة وفق الترتيب الصحيح و لكن
أيضا من أجل وضعها بالشكل الصحيح. مثلا، فبإمكان الطوب أن تتجمع وفق الترتيب
المطلوب بهدف بناء حائط. و لكن إذا ما تم وضعها اتجاه زوايا غريبة و إذا ما بني
الحائط بشكل مائل فإن دفعة خفيفة ستكون كافية لانهياره و سوف لن تحصل على منزل
قابل للسكن في آخر الأمر حتى و لو كان ترتيب عملية التجميع دقيق. أي بصيغة أخرى،
ليس كافيا أن تتشكل المعدات وفق الترتيب الصحيح لأن بالإضافة إلى ذلك فيجب أن تكون
معدة وفق الترتيب الصحيح.
حسنا، باعتبارك المكلف بعملية البناء فإنك سوف لن
تجد أي مشكل في تجاوز أي من هذه التحديات، ذلك لأنك باعتبارك شخصا ذكيا فانك تنظر
إلى الشيء في صورته النهائية. فأنت يمكنك النظر إلى المستقبل و توقع كيف سيكون
إنتاجك النهائي. و بالتالي يمكنك التنسيق بين جميع الأشغال الضرورية لتجاوز
العقبات المطروحة لأنك تمتلك رسما بيانيا للمنزل و تعلم نوعية الأدوات التي سوف
تحتاج إليها لبنائه و كيف ستوزعها وفق المكان و الزمان الصحيحين. كما أنك تأخذ في
الحسبان مسألة تأمين المكان من اللصوص و قطاع الطرق و مسألة التخلص من بقايا
البناء و كيفية تجنب التبدير و أي شيء من شأنه أن يعيق عملية البناء. و تعلم كيفية ضمان أن تكون معدات البناء متطابقة
فيما بينها حتى يمكنك استغلالها بشكل فعال كما تعلم أيضا الترتيب الخاص بوضع
المعدات خلال عملية التركيب. و حتى لو استعنت باختصاصيين فإنك تعلم كيفية ترتيب
المعدات وفق التشكيل الصحيح. كل هذه التقنيات و المعارف تنبعث من الذكاء الذي
تمتلكه و لذلك فأنت تستطيع بناء منزل قابل للسكن.
إلا أن الآليات الداروينية المتمثلة في الطفرات
العشوائية و الانتخاب الطبيعي لا تمتلك كل هذه المعارف و المهارات، و كل ما تعرفه
هذه هو كيفية تعديل البنيات البيولوجية بشكل احتمالي حتى يتسنى لها الحفاظ على تلك
التعديلات العشوائية التي بإمكانها أن تصير مفيدة في تلك اللحظة. (تقاس فائدتها
حسب إمكانية البقاء على قيد الحياة و حسب إمكانية التوالد). فالآليات الداروينية
هي آليات ذات استجابة فورية، ولو كانت مكان المكلف بالبناء لبدأت أولا بإقامة
الجدران نظرا للفائدة التي ستجنيها بتجنب دخول الأشياء الدخيلة إلى مكان البناء.
إلا أن إقامة الجدران أولا سوف تمنع وضع الأساسات بعد ذلك، و كنتيجة لذلك، فإن أي
محاولة لبناء منزل قابل للسكن سوف يكون مصيرها إلى الفشل. على هذا المنوال تعمل
الآليات الداروينية، و هذا هو السبب الذي يجعلها محدودة جدا بحيث أنها ترتجل في
إطار التجربة و الخطأ، و بالتالي ففي أي عمل ارتجالي فهي تحتاج إلى الحفاظ على
المكتسبات المفيدة أو إلى تحسينها أو إلى انتقاء مكتسبات أخرى مفيدة. و لا يمكنها
القيام بتضحيات في الوقت الراهن بهدف جمع فوائد مستقبلية لا تزال بعيدة المنال.
الآن يمكنك أن تتخيل ما الذي يمكن أن يعنيه اجتياز
هذه التحديات السبعة بالنسبة للآليات الداروينية خلال تطور السوط البكتيري. فلنأخذ
بكتيريا عادية لا تمتلك أي سوط و لا الجينات القادرة على إنتاج بروتينات السوط و
لا أي جينات مماثلة للجينات المسؤولة عن إنتاجها. فمن المفترض أن تلك البكتيريا قد
تطورت عبر مرور الوقت إلى بكتيريا ذات جينات تكميلية و التي تعتبر ضرورية كلها
لإنتاج سوط وظيفي بشكل تام. هل الآليات الداروينية تعتبر كافية بحيث يتسنى لها
التنسيق بين جميع الأحداث الكيميائية الحيوية الضرورية لتجاوز تلك التحديات السبعة
وصولا إلى تطوير السوط البكتيري؟ الجواب بنعم على هذه المسألة يعني نسب قدرات
إبداعية للآلية التطورية و هذا الأمر حتما لا يحتمل وقوعه.
لرؤية ذلك، فلنأخذ كل تحد من التحديات السبعة و
لنتفحص ما يمكن أن يطرحه كل واحد منهم بالنسبة لتطور السوط البكتيري.
فلنبدأ
بمسألة الجاهزية: هل بإمكان الآليات الداروينية تجاوز تحدي الجاهزية؟ من أجل تجاوز
هذا العائق فالآليات الداروينية تحتاج لتشكيل بروتينات جديدة. (إذا ما كان السوط
البكتيري قد تطور بمجمله فإنه سيكون قد تطور انطلاقا من بكتيريا لا تمتلك أي جينات
مضبوطة أو مماثلة بإمكانها إنتاج البروتينات الخاصة ببنية السوط ). حسنا، فالآليات
التطورية في بعض الحالات يمكنها أن تكون قادرة على تعديل بروتينات موجودة مسبقا أو
تشغيلها بهدف منحها استعمالات جديدة. لكن اقتراح هذه الآلية لتفسير ظهور بروتينات
جديدة فإن البراهين تتعارض مع الآليات التطورية. و كما سنرى ذلك في مقال مقبل فإن
الأبحاث المتعلقة بطي البروتينات تشير إلى أن تلك الأنواع تعتبر من غير المحتمل أن
تتطور عبر المسار التطوري. بالتوافق مع ذلك فإن إنتاج بروتينات جديدة، و هو الأمر
الضروري في تطور السوط البكتيري، يبدو أنه غير محتمل بالنسبة للآلية الداروينية.
فلنختبر الآن مسألة التزامن: التطور الدارويني
يملك الكثير من الوقت للاشتغال و لا يبدوا أنه مرهون بأي تاريخ محدد (بالرغم من أن
علماء الفيزياء الفلكية يضعون تواريخ محدودة لوجود كوكب الأرض، و لتحول الشمس إلى
نجم أحمر عملاق مما سيؤدي إلى توسعها و بالتالي فأي شيء سيعترض طريقها سيصير رمادا
حتى لو كان كوكب الأرض نفسه (1)). قد لا يكون أمرا جوهريا بالنسبة للتطور التوفر
على بروتين محدد أو بنية تشريحية، إلا إذا تم التوفر عليه بشكل مبكر بحيث أن
البروتين المعني سينتهي به الأمر إلى زوال أو إلى فقدان كامل قدرته على الإندماج
قبل أن يكون مستلزما من طرف النظام خلال مراحل تطوره. إلا أن علم تطور الأجنة غير
متسامح لهذه الدرجة، لأنه على غرار نمو الكائن الحي من البويضة المخصبة إلى أن
يكتمل نموه فهو يحتاج إلى عناصر ضرورية محددة في الأوقات الصحيحة و إلا أنه سيموت.
و إذا كان التطور يمكنه أن يكون نسبيا غير مبال أمام إشكالية التزامن فإن العكس من
ذلك تماما يحدث مع علم الأجنة.
من جانب آخر، فإن مسألة التموقع يبدو أنها تطرح صعوبات أكثر أمام الآليات الداروينية.
فالمشكل هنا يكمن في أن العناصر المتعلقة بنظام معين تحتاج إلى أن تكون مجتمعة من
أجل استعمالها في نظام ناشئ و جديد. هذا النظام الناشئ يبدو كأنه نظام معدل، بمعنى
أن أجزاءه كانت تنتمي من قبل إلى نظم أخرى. لكن، ما هو احتمال أن تنفصل هذه
العناصر عن بعضها البعض لتتموقع في موقع بناء خاص بنظام آخر جديد و أفضل من سابقه؟
إن أحسن برهان لدينا يوحي لنا بأن إعادة
تموقع أجزاء كانت تنتمي من قبل لنظم مختلفة يعتبر أمرا غير محتمل و تزداد نسبة عدم
احتمال وقوع مثل هذا الأمر كلما دعت الحاجة لإعادة تموقع أجزاء أخرى بشكل متزامن و
في نفس المكان. و هناك سببين لذلك: أولهما، أن مكان التشكل الخاص بنظام كيميائي
حيوي معين عادة ما يتجه نحو الحفاظ على تماسكه و ذلك بإضافة البروتينات الضرورية
فقط لاشتغال النظام مع طرد أي بروتين عبثي يمكنه أن يعبث به. و ثانيهما، أن
البروتينات لا تنفصل هكذا بكل بساطة و بشكل تعودي عن النظم التي تنتمي إليها، بل
إنها تتطلب مجموعة كاملة من التغيرات الجينية كالاستنساخات الجينية و التغيرات
التنظيمية و الطفرات الوقتية.
أما مشكل تفاعلات التداخل فهو يزيد من حدة التحدي
الذي تطرحه المسألة السابقة أمام الآليات الداروينية. فإذا كان السوط البكتيري
بالفعل نتاج لعملية التطور الدارويني فإن الأسلاف التطورية للسوط البكتيري كان
عليها أن تكون حاضرة على طول تاريخه التطوري. فهذه الأسلاف كان يجب أن تكون عبارة
عن نظم وظيفية، و التي خلال تطورها إلى السوط، كان عليها أن تخضع للتعديل عبر
انضمام عناصر ذوات استعمالات أخرى مسبقة. إذن
فإن هذه العناصر سوف تحتاج إلى أن تتموقع في مكان تشكل السلف المشار إليه. حسنا،
فكما أشرنا إلى ذلك من قبل عند حديثنا عن التحدي الذي تطرحه مسألة التموقع، فليس
هناك أي سبب حتى للتفكير على أن حدوث مثل هذا الأمر قد يعتبر محتملا. إننا نتحدث
عن بروتينات خارجية تسبح حول تلك الأماكن
التي لا ينتظر فيها أن يقوم بروتين داخل النظام بالانفصال و بأن تتم إعادة تدويره
(عبر بروتينات تسمى ب "البروتيزومات"). لكن فلنفترض أن مكان التشكل قد
صار أكثر استقبالا لبروتينات جديدة، ففي هذه الحالة، و عند استقبال عناصر يمكنها
المساهمة في تطوير السوط البكتيري، فإن مكان التشكل سيرحب أيضا بالبروتينات التي
من شأنها أن تعيق تطوره. من هنا نستخلص أنه عندما يكون من السهل توضيح جسامة مشكل
التموقع، فإن مشكل تفاعلات التداخل يعتبر من الصعب تعريفه و العكس بالعكس.
من ناحية أخرى فإن تطابق الواجهة يقيم تحدي آخر
أمام الآليات الداروينية. فالمشكل هو كالآتي: حتى تتمكن الآليات الداروينية من
تطوير نظام ما فهي بالحاجة إلى إعادة استعمال أجزاء كانت تنتمي من قبل لنظم أخرى.
لكن هذا ليس كل شيء، فهي تحتاج أيضا إلى أن تتأكد من أن الأجزاء التي أعيد
استعمالها قد أخذت مكانها بشكل ملائم في النظام الجديد خلال تطوره، و إلا فإن
النظام سيعمل بشكل سيء و بالتالي سوف لن يحصل على أي فائدة دائمة و قابلة
للانتقاء. و بعد كل شيء فإن ما ينتجه التطور ما هو سوى تجمع للعديد من العناصر
فيما بينها، أي بصيغة أخرى، هو عبارة عن نظم مشكلة من عدة عناصر متلاصقة فيما
بينها كانت لديها مسبقا استعمالات أخرى مختلفة. إذن، إذا كانت هذه العناصر قد تم
إنتاجها وفق قواعد مشتركة يمكن أن يكون هذا سببا للتفكير على أنهم يمكنهم الاشتغال
سويا و بشكل مرضي، إلا أن الانتقاء الطبيعي، باعتباره آلية إرضاء لحظية، ليست له
القدرة الملازمة له حتى يعطي معايير لما ينتجه التطور. و بدون معايرة فإن كل ما
ينتجه التطور يصير محدودا بشكل كبير.
فتخيل معي سيارات تم صنعها من طرف معامل مختلفة
كشيفروليه إيمبالا في الولايات المتحدة و هوندا في اليابان. فحتى لو كانت
السيارتين متشابهتين بشكل كبير و يمتلكان نظم ثانوية و أجزاء تؤدي وظائف مماثلة و
بشكل مماثل فإن أجزاءهما سوف لن تكون متطابقة. فعلى سبيل المثال، فأنت لا يمكنك
تبديل مكبس أحدهما بمكبس السيارة الأخرى و قس على ذلك كل من اللوالب و الصمولات و
الممسك، إلخ. ذلك يرجع إلى أن السيارتين
قد صممتا بشكل مستقل حسب معايير و تصاميم مختلفة. ففي مصنع الشيفروليه، حيث يتم
صنع نموذج إمبالا، توجد معايرة تضمن أن يكون لمختلف أجزاء إمبالا و عدة نماذج أخرى
لشيفروليه واجهات متطابقة. إلا أنه سوف لن تكون هناك نفس المعايرة لمصنعين اثنين
(كما هو الحال بين شيفروليه و هوندا). فعلا، فإن المعايير المشتركة و التي تمنحنا
التطابق في الواجهة في النظم الوظيفية المختلفة لا تشير إلى وجود تصميم واحد فقط
للنظم و إنما أيضا إلى وجود تصميم مشترك مسؤول عن المعايرة.
لكن الآليات الداروينية لا تستطيع إنتاج تصميم
مشترك لأن أكبر همها يكمن في تلك البنيات التي تشكل امتيازا مباشرا بالنسبة للكائن
الحي المتطور. ليس هناك ما يضمن أن تلك البنيات ستخضع لمعايير قد تسمح لها بالولوج
و بأن تتفاعل بشكل فعال مع بنيات أخرى.
على سبيل المثال، فالتطوريون عادة ما يدعون أن السوط البكتيري قد تطور
انطلاقا من محقنة مجهرية تسمى ب "نظام الإفراز من النمط الثالث" (و يشار
إليه ب TTSS). حسب هذا النموذج، فالشعيرة البكتيرية أو أي بنية مشابهة للشعر
قد أعيد استعمالها و تم ضمها إلى TTSS لكي تتحول بعدها بشكل عرضي إلى بنية تخول للسوط التنقل في وسط
سائل. لكن قبل أن تثبت الشعيرة البكتيرية في TTSS فإن كلا النظامين كان يجب
عليهما أن يتطورا بشكل مستقل. و بالتالي ليس هناك أي سبب للتفكير على أن هذه النظم
يجب أن تعمل سويا بالإعتماد فقط على الصدفة و الحظ. و الاعتقاد بذلك يعتبر مثله
مثل الاعتقاد بأن السيارات المصممة بشكل مستقل عن بعضها البعض يمكنها أن تمتلك
أجزاء قابلة للتبديل فيما بينها. و يمكن اختبار نقطة الضعف هذه في نظرية التطور
بشكل تجريبي: خذ أي TTSS و شعيرة بكتيرية و حدد كمية التعديلات النوعية الضرورية حتى يمكن
إخراج الشعيرة البكتيرية من نظام التصدير البروتيني ل TTSS (فقط هكذا يمكن للشعيرة
البكتيرية أن تمتلك واجهة صحيحة مع نظام الإفراز TTSS). و حتى اللحظة فليس هناك
أي أسباب نظرية أو تجريبية للتفكير على أن الآلية الداروينية يمكنها أن تتجاوز عائق
التطابق في الواجهة.
بالإضافة إلى كل هذا، فإن الآليات الداروينية
بحاجة أيضا إلى توضيح مشكل الترتيب في عملية التجميع. فالآالية الداروينية تعمل عن
طريق التكبير و التعديل: تضيف أجزاء جديدة لنظم مشتغلة كما تعمل على تعديل أجزاء
متواجدة فيها. و بهذا الشكل تتشكل نظم جديدة مع وظائف جديدة و كاملة. حسنا، تخيل
معي ماذا سوف يحدث عندما تضاف أجزاء جديدة لنظام قيد الاشتغال، في هذه الحالة فإن
النظام الأولي سيتحول إلى نظام ثانوي للنظام الكبير الذي تم تشكيله.بالإضافة إلى
أن الترتيب في عملية التجميع للنظام الثانوي سيكون، على الأقل في البداية (قبل
التعديلات المتعاقبة)، مثله مثل عندما كان النظام الثانوي لوحده. و بشكل عام، فقط
لأن أجزاء النظام الثانوي يمكنها أن تتموضع سويا وفق ترتيب معين فذلك لا يعني أن
تلك الأجزاء بإمكانها أن تتركب في نفس الترتيب ساعة انضمامها إلى النظام الكبير. بالفعل،
ففي تطور أي نظام كالسوط البكتيري يمكننا أن ننتظر حدوث تغيرات جوهرية خلال عملية تجميع
مختلف أجزائه (بالضبط هذه هي الحالة المتعلقة بنموذج تطور السوط البكتيري انطلاقا
من TTSS). إذن، كيف عرف الترتيب في عملية التجميع حدوث التغيرات الصحيحة؟
بالنسبة للعديد من النظم البيولوجية فإن الترتيب في عملية التجميع هو جد محكم و لا
يسمح بحدوث تغيرات جوهرية. و بالتالي فإن وزن هذا البرهان يفرض على التطوريين إظهار
أن أي نظام في مرحلة تطوره فإن الآليات الداروينية لا تعمل فقط على ترتيب مسألة ظهور
الأجزاء الصحيحة و إنما أيضا على ترتيب تجمعها وفق الترتيب الصحيح. فالتطوريون لم
يظهروا أي شيء من هذا القبيل.
و في الأخير، لدينا العقبة المتعلقة بمسألة الإعداد:
في تصميم و بناء المنتجات البشرية تعتبر مسألة الإعداد من أهم التحديات الصعبة
التي يجب تجاوزها. و من جانب آخر، ففي تطور النظم الكيميائية الحيوية المعقدة بشكل
لا يقبل الاختزال كالسوط البكتيري، يعتبر هذا التحدي من أسهل التحديات التي يمكن
تجاوزها. و هنا سنذكر لماذا: خلال عملية تجميع السوط و النظم المشابهة له فالأجزاء
الكيميائية الحيوية لا تتجمع مصادفة، بل تجمع نفسها بنفسها وفق الإعداد الصحيح
عندما تسمح الإصطدامات المحتملة بتفاعلات معينة و تعاونية و إلكتروستاتية محلية و
التي تقوم بتجميع السوط ضربة واحدة. و بالتالي، عندما يتم توضيح مسألة التطابق في
الواجهة و الترتيب في عملية التجميع للسوط البكتيري يجب المرور بعدها لتوضيح مشكلة
الإعداد. و لدينا هنا مبدأ عاما، بالنسبة لتلك البنيات التي تجمع نفسها بنفسها
كالنظم البيولوجية، فالإعداد يعتبر منتجا ثانويا لبنيات أخرى إجبارية (كالتطابق في
الواجهة و الترتيب في عملية التجميع). إلا أن ذلك لا يعني أن إعداد تلك النظم قد
يأتي بشكل مجاني، و إنما نفهم أن تكلفة إعداده تتداخل ضمنيا مع تكلفات أخرى.
تمت الترجمة من:
Dembski, W.;
Wells J. (2008) the Design of Life: Discovering Signs of Intelligence in
Biological Systems, The Foundation for Thought and Ethics, Dallas, p. 183-189.
التعريف بالكاتبين:
ويليام دومبسكي (William
Dembeski)
حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة في جامعة إيليون في شيكاغو و على شهادة
الدكتوراه في الرياضيات بجامعة شيكاغو. يعتبر واحدا من أهم منظري التصميم الذكي و
له عدة مؤلفات في هذا المجال. هو صاحب أول كتاب للتصميم الذكي تم نشره من طرف دار
نشر جامعية معترف بها:
The Design Inference: Elimitating
Chance Through Small Probabilities. (Cambridge University Press.1998)
جوناثان ويلز (Jonathan
Wells):
حاصل على الدكتوراه في البيولوجية الخلوية و الجزيئية من جامعة كاليفورنيا في
بيركلاي. حاليا هو واحد من الباحثين الأساسيين في معهد ديسكافري.
المراجع:
1- Humbert P. Yockey, Information
Theory and Molecular Biology (Cambridge: Cambridge University Press,
1992), 220-221.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق